فصل: قال الشوكاني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} إنكارٌ ونفيٌ لعدم كفايته تعالى على أبلغِ وجهٍ وآكدِه كأن الكفاية من التَّحقُّقِ والظُّهورِ بحيثُ لا يقدر أحدٌ على أنْ يتفوَّه بعدمِها أو يتلعثم في الجوابِ بوجودِها. والمرادُ بالعبدِ إمَّا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أو الجنسُ المنتظمُ له عليه السَّلامُ انتظامًا أوليًّا. ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ {عبادَهُ} وفُسِّر بالأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ. وكذا قراءةُ من قرأ بـ: {كافي عبادِه} على صيغة المُغالبةِ إمَّا من الكِفايةِ لإفادة المبالغة فيها، وإمَّا من المُكافأةِ بمعنى المُجازاة وهذه تسليةٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم عمَّا قالت له قُريشٌ إنَّا نخاف أنْ تخبلَك آلهتُنا ويصيبَك مضرَّتُها لعيبكِ إيَّاها وفي روايةٍ قالُوا لتكُفَنَّ عن شتمِ آلهتِنا أو ليصيبنَّكَ منهم خَبَلٌ أو جنونٌ كما قال قومُ هودٍ {إنْ نقولُ إلاَّ اعتراك بعضُ آلهتِنا بسوءٍ} وذلك قوله تعالى: {وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ} أي الأوثانِ التي اتَّخذوها آلهةً من دونه تعالى. والجملةُ استئنافٌ وقيل: حالٌ {وَمَن يُضْلِلِ الله} حتَّى غفل عن كفايتِه تعالى وعصمتِه له عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وخوَّفه بما لا ينفعُ ولا يضرُّ أصلًا {فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} يهديه إلى خيرٍ ما.
{وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ} يصرفُه عن مقصدِه أو يُصيبه بسوءٍ يخلُّ بسلوكِه إذ لا رادَّ لفعلِه ولا معارضَ لإرادتِه كما ينطقُ به قولُه تعالى: {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ} غالبٍ لا يُغالبُ منيعٍ لا يُمانعُ ولا يُنازعُ.
{ذِى انتقام} ينتقمُ من أعدائِه لأوليائِه. وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لتحقيقِ مضمونِ الكلامِ وتربيةِ المهابةِ.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} لوضوحِ الدَّليلِ وسنوح السَّبيلِ {قُلْ} تبكيتًا لهُم {أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ} أي بعد ما تحقَّقتُم أنَّ خالق العالم العلويَّ والسُّفليِّ هو الله عزَّ وجلَّ فأخبروني أن آلهتَكم إنْ أرادني الله بضرَ هل يكشفنَ عنِّي ذلك الضُّرِّ {أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ} أي أو أرادني بنفعٍ {هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ} فيمنعنها عنِّي. وقُرئ {كاشفاتٌ ضرَّه} و{ممسكاتٌ رحمتَه} بالتَّنوينِ فيهما ونصبِ {ضُرِّه} و{رحمته} وتعليق إرادة الضُّرَّ والرَّحمةِ بنفسه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للردِّ في نحورِهم حيث كانُوا خوّفوه معرَّةَ الأوثانِ ولما فيه من الإيذانِ بإمحاضٍ النَّصيحةِ.
{قُلْ حَسْبِىَ الله} أي في جميعِ أموري من إصابةِ الخير ودفعِ الشَّرِّ. رُوي أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لمَّا سألهم سكتُوا فنزلَ ذلك {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} لا على غيرِه أصلًا لعلمهم بأنَّ كلَّ ما سواه تحت ملكوتِه تعالى: {قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} على حالتِكم التي أنتمُ عليها من العداوة التي تمكَّنتُم فيها فإنَّ المكانة تُستعار من العَين للمعنى كما تُستعار هُنا وحَيثُ للزَّمانِ مع كونِهما للمكانِ. وقُرئ {على مكاناتِكم} {إِنّى عامل} أي على مكانتِي فحذف اللاختصارِ والمبالغةِ في الوعيدِ والاشعارِ بأنَّ حالَه لا تزال تزداد قوَّةً بنصر الله عزَّ وجلَّ وتأييدِه ولذلك توعَّدهم بكونه منصُورًا عليهم في الدَّارينِ بقوله تعالى: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} فإنَّ خِزي أعدائِه دليلُ غلبتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقد عذَّبهم الله تعالى وأخزاهم يومَ بدرٍ.
{وَيَحِلُّ عَلَيْهِمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي دائمٌ هو عذابُ النَّارِ.
{إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ} لأجلِهم فإنَّه مناطُ مصالحِهم في المعاشِ والمعادِ {بالحق} حال من فاعل أنزلَنا أو من مفعولِه {فَمَنُ اهتدى} بأنْ عملَ بما فيه {فَلِنَفْسِهِ} أي إنَّما نفعَ به نَفسه {وَمَن ضَلَّ} بأنْ لم يعمل بموجبِه {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} لما أنَّ وبالَ ضلاله مقصورٌ عليها.
{وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} لتُجبرَهم على الهُدى، وما وضيفتُك إلاَّ البلاغُ وقد بلَّغت أيَّ بلاغٍ {الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا} أي يقبضِها من الأبدانِ بأنْ يقطع تعلُّقها عنها وتصرُّفها فيها إمَّا ظاهرًا وباطنًا كما عند الموتِ أو ظاهرًا فقط كما عند النَّومِ {فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت} ولا يردُّها إلى البدنِ. وقُرئ {قُضِيَ} على البناءِ للمفعولِ ورفعِ {الموتَ}.
{وَيُرْسِلُ الأخرى} أي النَّائمةَ إلى بدنها عند التَّيقظِ {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو الوقتُ المضربُ لموتِه وهو غاية لجنس الإرسال الواقعِ بعد الإمساكِ لا لفردٍ منه فإنَّ ذلك مَّما لا امتدادَ فيه ولا كميَّة.
وما رُوي عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ في ابنِ آدمَ نَفسًا ورُوحًا بينهما مثلُ مثل الشَّمسِ فالنفسُ هي التي بها العقلُ والتَّمييزُ والرُّوحُ هي التي بها النَّفَسُ والتَّحركُ فتتوفيان عند الموتِ وتُتوفى النَّفسُ وحدَها عند النَّوم قريبٌ مَّما ذُكر.
{إِنَّ في ذَلِكَ} أي فيما ذُكر من التَّوفِّي على الوجهينِ والإمساكِ في أحدِهما والإرسالِ في الآخرِ {لاَيَاتٍ} عجيبةً دالَّةً على كمال قُدرته تعالى وحكمته وشمول رحمتِه {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في كيفَّيةِ تعلُّقِها بالإبدان وتوفِّيها عنها تارة بالكُلَّيةِ كما عند الموت وإمساكها باقيةً لا تفنى بفنائِها وما يعتريها من السَّعادةِ والشَّقاوةِ وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النَّومِ وإرسالها حينًا بعد حينٍ إلى انقضاءِ آجالِها.
{أَمِ اتخذوا} أي بل أتَّخذ قُريشٌ {مِن دُونِ الله} من دُون إذنِه تعالى: {شُفَعَاء} تشفعُ لهم عنده تعالى؟ {قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلاَ يَعْقِلُونَ} الهمزةُ لإنكار الواقع واستقباحِه والتَّوبيخِ عليه أي قل أتَّتخذونهم شفعاءَ ولو كانُوا لا يملكون شيئًا من الأشياء ولا يعقلونَه فضلًا عن أنْ يملكوا الشَّفاعةَ عند الله تعالى أو هي لإنكارِ الوقوع ونفيه على أنَّ المرادَ بيانُ أنَّ ما فعلوا ليس من اتَّخاذِ الشُّفعاءِ في شيء لأنَّه فرعُ كونِ الأوثان شفعاءَ وذلك أظهرُ المحالاتِ فالمقدَّر حينئذٍ غيرُ ما قُدِّر أوَّلًا وعلى أي تقديرٍ كان فالواو للعطفِ على شرطيةٍ قد حُذفتْ للدلالة المذكورةِ عليها أي أيشفعون لو كانُوا يملكون شيئًا ولو كانُوا لا يملكون الخ وجوابُ لو محذوفً لدلالةِ المذكور عليه وقد مرَّ تحقيقُه مرارًا.
{قُلْ} بعد تبكيتِهم وتجهيلِهم بما ذُكر تحقيقًا للحقِّ {لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعًا} أي هو مالُكها لا يستطيعُ أحدٌ شفاعةً ما إلاَّ أن يكونَ المشفوعُ له مرتضَى، والشَّفيعُ مأذونًا له وكلاهما مفقودٌ ههنا. وقولُه تعالى: {لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض} تقريرٌ له وتأكيدٌ أي له ملكُهما وما فيهما من المخلوقاتِ لا يملك أحدٌ أنْ يتكلَّم في أمرٍ من أمورِه بدونِ إذنِه ورضاه {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يومَ القيامةِ لا إلى أحدٍ سواهُ لا استقلالًا ولا اشتراكًا فيفعل يؤمئذٍ ما يريدُ {وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ} دون آلهتِهم {اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} أي انقبضتْ ونَفَرتْ كما في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا} {وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ} فُرادى أو مع ذكرِ الله تعالى: {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} لفرطِ افتتانهم بها ونسيانِهم حقَّ الله تعالى، ولقد بُولغ في بيان حالَيهم القبيحتينِ حيثُ بيّن الغايةُ فيهما فإنَّ الاستبشارَ هو أنْ يمتلىءَ القلبَ سُرورًا حتَّى ينبسطَ له بَشَرةُ الوجهِ، والاشمئزازُ أنْ يمتلىءَ غيظًا وغمَّا ينقبضُ منه أديمُ الوجهِ. والعاملُ في إذا الأولى اشمأزَّت، وفي الثَّانيةِ ما هو العاملُ في إذا المفاجأةِ تقديرُه وقتَ ذكرِ الذين من دُونه فاجأوا وقتَ الاستبشارِ. اهـ.

.قال الشوكاني:

قوله: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} قرأ الجمهور: {عبده} بالإفراد.
وقرأ حمزة، والكسائي: {عباده} بالجمع، فعلى القراءة الأولى المراد: النبي صلى الله عليه وسلم، أو الجنس، ويدخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دخولًا أوليًّا، وعلى القراءة الأخرى المراد: الأنبياء أو المؤمنون أو الجميع، واختار أبو عبيد قراءة الجمهور، لقوله عقبه: {ويخوّفونك} والاستفهام للإنكار لعدم كفايته سبحانه على أبلغ وجه كأنها بمكان من الظهور لا يتيسر لأحد أن ينكره.
وقيل: المراد بالعبد، والعباد: ما يعمّ المسلم، والكافر.
قال الجرجاني: إن الله كاف عبده المؤمن، وعبده الكافر هذا بالثواب، وهذا بالعقاب.
وقرئ: {بكافي عباده} بالإضافة، وقرئ: {يكافي} بصيغة المضارع، وقوله: {وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ} يجوز أن يكون في محل نصب على الحال، إذ المعنى: أليس كافيك حال تخويفهم إياك؟ ويجوز أن تكون مستأنفة، والذين من دونه عبارة عن المعبودات التي يعبدونها {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي: من حقّ عليه القضاء بضلاله، فما له من هاد يهديه إلى الرّشد، ويخرجه من الضلالة.
{وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ} يخرجه من الهداية، ويوقعه في الضلالة {أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ} أي: غالب لكل شيء قاهر له {ذِى انتقام} ينتقم من عصاته بما يصبه عليهم من عذابه، وما ينزله بهم من سوط عقابه.
{وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} ذكر سبحانه اعترافهم إذا سئلوا عن الخالق بأن الله سبحانه مع عبادتهم للأوثان، واتخاذهم الآلهة من دون الله، وفي هذا أعظم دليل على أنهم كانوا في غفلة شديدة، وجهالة عظيمة؛ لأنهم إذا علموا أن الخالق لهم، ولما يعبدون من دون الله هو: الله سبحانه، فكيف استحسنت عقولهم عبادة غير خالق الكل، وتشريك مخلوق مع خالقه في العبادة؟ وقد كانوا يذكرون بحسن العقول، وكمال الإدراك، والفطنة التامة، ولكنهم لما قلدوا أسلافهم، وأحسنوا الظنّ بهم هجروا ما يقتضيه العقل، وعملوا بما هو محض الجهل.
ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يبكتهم بعد هذا الاعتراف، ويوبخهم، فقال: {قُلْ أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ} أي: أخبروني عن آلهتكم هذه هل تقدر على كشف ما أراده الله بي من الضرّ، والضرّ هو: الشدّة، أو أعلى {أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ} عنِّي بحيث لا تصل إليّ، والرحمة النعمة، والرّخاء.
قرأ الجمهور {ممسكات} و{كاشفات} في الموضعين بالإضافة، وقرأهما أبو عمرو، بالتنوين.
قال مقاتل: لما نزلت هذه الآية سألهم النبي صلى الله عليه وسلم، فسكتوا، وقال غيره: قالوا: لا تدفع شيئًا من قدر الله، ولكنها تشفع، فنزل: {قُلْ حَسْبِىَ الله} في جميع أموري في جلب النفع، ودفع الضرّ {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون} أي: عليه، لا على غيره يعتمد المعتمدون، واختار أبو عبيد، وأبو حاتم قراءة أبي عمرو، لأن {كاشفات} اسم فاعل في معنى: الاستقبال، وما كان كذلك، فتنوينه أجود، وبها قرأ الحسن، وعاصم.
ثم أمره سبحانه أن يهدّدهم، ويتوعدهم، فقال: {قُلْ ياقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} أي: على حالتكم التي أنتم عليها، وتمكنتم منها {إِنّى عامل} أي: على حالتي التي أنا عليها، وتمكنت منها، وحذف ذلك للعلم به مما قبله {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: يهينه، ويذله في الدنيا، فيظهر عند ذلك أنه المبطل، وخصمه المحقّ، والمراد بهذا العذاب عذاب: الدنيا، وما حلّ بهم من القتل، والأسر، والقهر، والذلة.
ثم ذكر عذاب الآخرة، فقال: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} أي: دائم مستمرّ في الدار الآخرة، وهو: عذاب النار.
ثم لما كان يعظم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إصرارهم على الكفر أخبره بأنه لم يكلف إلا بالبيان، لا بأن يهدي من ضلّ، فقال: {إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ} أي: لأجلهم، ولبيان ما كلفوا به، و{بالحق} حال من الفاعل، أو المفعول، أي: محقين، أو ملتبسًا بالحقّ {فَمَنُ اهتدى} طريق الحق، وسلكها {فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ} عنها {فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: على نفسه، فضرر ذلك عليه لا يتعدّى إلى غيره {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} أي: بمكلف بهدايتهم مخاطب بها، بل ليس عليك إلا البلاغ، وقد فعلت.
وهذه الآيات هي منسوخة بآية السيف، فقد أمر الله رسوله بعد هذا أن يقاتلهم حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويعملوا بأحكام الإسلام.
ثم ذكر سبحانه نوعًا من أنواع قدرته البالغة، وصنعته العجيبة، فقال: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} أي: يقبضها عند حضور أجلها، ويخرجها من الأبدان {والتى لَمْ تَمُتْ في مَنَامِهَا} أي: ويتوفى الأنفس التي لم تمت، أي: لم يحضر أجلها في منامها.
وقد اختلف في هذا.
فقيل: يقبضها عن التصرّف مع بقاء الروح في الجسد.
وقال الفراء: المعنى: ويقبض التي لم تمت عند انقضاء أجلها قال: وقد يكون توفيها نومها، فيكون التقدير على هذا: والتي لم تمت، وفاتها نومها.
قال الزجاج: لكل إنسان نفسان: أحدهما: نفس التمييز، وهي التي تفارقه إذا نام، فلا يعقل، والأخرى: نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس، والنائم يتنفس.
قال القشيري: في هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين شيء واحد، ولهذا قال: {فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى} أي: النائمة {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} وهو الوقت المضروب لموته، وقد قال بمثل قول الزجاج: ابن الأنباري.
وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا، وأرواح الأحياء إذا ناموا، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف {فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى} فيعيدها، والأولى أن يقال: إن توفي الأنفس حال النوم بإزالة الإحساس، وحصول الآفة به في محل الحسّ، فيمسك التي قضى عليها الموت، ولا يردّها إلى الجسد الذي كانت فيه، ويرسل الأخرى بأن يعيد عليها إحساسها.
قيل: ومعنى {يَتَوَفَّى الأنفس عِندَ مَوْتِهَا} هو على حذف مضاف، أي: عند موت أجسادها.
وقد اختلف العقلاء في النفس، والروح هل هما شيء واحد، أو شيئان؟ والكلام في ذلك يطول جدًّا، وهو معروف في الكتب الموضوعة لهذا الشأن.
قرأ الجمهور: {قضى} مبنيًّا للفاعل، أي: قضى الله عليها الموت، وقرأ حمزة، والكسائي، والأعمش، ويحيى بن وثاب على البناء للمفعول، واختار أبو عبيد، وأبو حاتم القراءة الأولى لموافقتها لقوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس} والإشارة بقوله: {إِنَّ في ذَلِكَ} إلى ما تقدّم من التوفي، والإمساك، والإرسال للنفوس {لآيَاتٍ} أي: لآيات عجيبة بديعة دالة على القدرة الباهرة، ولكن ليس كون ذلك آيات يفهمه كل أحد بل {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في ذلك، ويتدبرونه، ويستدلون به على توحيد الله، وكمال قدرته.
فإن في هذا التوفي، والإمساك، والإرسال موعظة للمتعظين، وتذكرة للمتذكرين.
وقد أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} الآية قال: نفس، وروح بينهما مثل شعاع الشمس، فيتوفى الله النفس في منامه، ويدع الروح في جوفه تتقلب، وتعيش، فإن بدا له أن يقبضه قبض الروح، فمات.
وإن أخر أجله ردّ النفس إلى مكانها من جوفه.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني في الأوسط، وأبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والضياء في المختارة عنه في الآية قال: تلتقي أرواح الأحياء، وأرواح الأموات في المنام، فيتساءلون بينهم ما شاء الله، ثم يمسك الله أرواح الأموات، ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} لا يغلط بشيء منها، فذلك قوله: {إِنَّ في ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
وأخرج عبد بن حميد عنه أيضًا في الآية قال: كل نفس لها سبب تجري فيه، فإذا قضى عليها الموت نامت حتى ينقطع السبب، والتي لم تمت في منامها تترك.
وأخرج البخاري، ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه، فلينفضه بداخلة إزاره، فإنه لا يدري ما خلفه عليه، ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي، وباسمك أرفعه، إن أمسكت نفسي، فارحمها، وإن أرسلتها، فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين». اهـ.